الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين
وَأَحَبُّ الْأُمُورِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَوْسَاطُهَا، فَمَنْ يَتَقَدَّمْ عَلَى أَمْثَالِهِ فَهُوَ مُتَكَبِّرٌ، وَمَنْ يَتَأَخَّرْ عَنْهُمْ فَهُوَ مُتَوَاضِعٌ، أَيْ وَضَعَ شَيْئًا مِنْ قَدْرِهِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ، وَالْعَالِمُ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ دَنِيءٌ فَتَنَحَّى لَهُ عَنْ مَجْلِسِهِ وَأَجْلَسَهُ فِيهِ، ثُمَّ تَقَدَّمَ وَسَوَّى لَهُ نَعْلَهُ، وَغَدَا إِلَى بَابِ الدَّارِ خَلْفَهُ فَقَدْ تَخَاسَسَ وَتَذَلَّلَ، وَهُوَ أَيْضًا غَيْرُ مَحْمُودٍ، بَلِ الْمَحْمُودُ عِنْدَ اللَّهِ الْعَدْلُ، وَهُوَ أَنْ يُعْطِيَ كُلَّ ذِي حَقِّ حَقَّهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَوَاضَعَ بِمِثْلِ هَذَا لِأَقْرَانِهِ وَمَنْ يَقْرُبُ مِنْ دَرَجَتِهِ، فَأَمَّا تَوَاضُعُهُ لِلسُّوقِيِّ فَبِالْقِيَامِ وَالْبِشْرِ فِي الْكَلَامِ وَالرِّفْقِ فِي السُّؤَالِ وَإِجَابَةِ دَعْوَتِهِ وَالسَّعْيِ فِي حَاجَتِهِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ، وَأَنْ لَا يَرَى نَفْسَهُ خَيْرًا مِنْهُ فَلَا يَحْتَقِرُهُ، وَلَا يَسْتَصْغِرُهُ، وَهُوَ لَا يَعْرِفُ خَاتِمَةَ أَمْرِهِ.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ: شُحٌّ مُطَاعٌ، وَهَوًى مُتَّبَعٌ وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ». وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الْهَلَاكُ فِي اثْنَتَيْنِ الْقُنُوطِ وَالْعُجْبِ. وَإِنَّمَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ السَّعَادَةَ لَا تُنَالُ إِلَّا بِالسَّعْيِ وَالطَّلَبِ وَالْجِدِّ وَالتَّشَمُّرِ، وَالْقَانِطُ لَا يَسْعَى، وَلَا يَطْلُبُ، وَالْمُعْجَبُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ قَدْ سَعِدَ وَقَدْ ظَفِرَ بِمُرَادِهِ فَلَا يَسْعَى، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النَّجْمِ: 32] أَيْ لَا تَعْتَقِدُوا أَنَّهَا بَارَّةٌ، وَقَالَ تَعَالَى: {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [الْبَقَرَةِ: 264] وَالْمَنُّ نَتِيجَةُ اسْتِعْظَامِ الصَّدَقَةِ، وَاسْتِعْظَامُ الْعَمَلِ هُوَ الْعُجْبُ.
فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِنْ آفَاتِ الْعُجْبِ، فَلِذَلِكَ كَانَ مِنَ الْمُهْلِكَاتِ، وَمِنْ أَعْظَمِ آفَاتِهِ أَنْ يَغْتَرَّ فِي السَّعْيِ لِظَنِّهِ أَنَّهُ قَدْ فَازَ وَأَنَّهُ قَدِ اسْتَغْنَى، وَهُوَ الْهَلَاكُ الصَّرِيحُ: نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ حُسْنَ التَّوْفِيقِ لِطَاعَتِهِ.
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ، وَهُوَ خَيْرُ النَّاسِ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يُنْجِيهِ عَمَلُهُ» قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ» وَمَهْمَا غَلَبَ الْخَوْفُ عَلَى الْقَلْبِ شَغَلَهُ خَشْيَةُ سَلْبِ هَذِهِ النِّعْمَةِ عَنِ الْإِعْجَابِ بِهَا، وَأَنَّى لِذِي بَصِيرَةٍ أَنْ يُعْجَبَ بِعَمَلِهِ، وَلَا يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ. فَإِذَنْ هَذَا هُوَ الْعِلَاجُ الْقَامِعُ لِمَادَّةِ الْعُجْبِ مِنَ الْقَلْبِ.
الْأَوَّلُ: أَنْ يُعْجَبَ بِبَدَنِهِ فِي جَمَالِهِ وَهَيْئَتِهِ وَقُوَّتِهِ وَحُسْنِ صَوْتِهِ، وَيَنْسَى أَنَّهُ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ بِعُرْضَةِ الزَّوَالِ فِي كُلِّ حَالٍ. وَعِلَاجُ التَّفَكُّرِ فِي أَقْذَارِ بَاطِنِهِ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ وَفِي آخِرِهِ، وَفِي الْوُجُوهِ الْجَمِيلَةِ وَالْأَبْدَانِ النَّاعِمَةِ كَيْفَ تَمَزَّقَتْ فِي التُّرَابِ وَأَنْتَنَتْ فِي الْقُبُورِ حَتَّى اسْتَقْذَرَتْهَا الطِّبَاعُ. الثَّانِي: الْبَطْشُ وَالْقُوَّةُ كَمَا حُكِيَ عَنْ قَوْمِ عَادٍ حِينَ قَالُوا فِيمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فُصِّلَتْ: 15] وَعِلَاجُهُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ حُمَّى يَوْمٍ تُضْعِفُ قُوَّتَهُ، وَأَنَّهُ إِذَا أُعْجِبَ بِهَا رُبَّمَا سَلَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِأَدْنَى آفَةٍ يُسَلِّطُهَا عَلَيْهِ. الثَّالِثُ: الْعُجْبُ بِالْعَقْلِ وَالْكِيَاسَةِ وَالتَّفَطُّنِ لِدَقَائِقِ الْأُمُورِ مِنْ مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَثَمَرَتُهُ الِاسْتِبْدَادُ بِالرَّأْيِ وَتَرْكُ الْمَشُورَةِ وَاسْتِجْهَالُ النَّاسِ الْمُخَالِفِينَ لَهُ وَلِرَأْيِهِ، وَيَخْرُجُ إِلَى قِلَّةِ الْإِصْغَاءِ إِلَى أَهْلِ الْعِلْمِ إِعْرَاضًا عَنْهُمْ بِالِاسْتِغْنَاءِ بِالرَّأْيِ وَالْعَقْلِ. وَعِلَاجُهُ أَنْ يَشْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى مَا رُزِقَ مِنَ الْعَقْلِ وَيَتَفَكَّرَ أَنَّهُ بِأَدْنَى مَرَضٍ يُصِيبُ دِمَاغَهُ كَيْفَ يُوَسْوِسُ وَيُجَنُّ بِحَيْثُ يُضْحَكُ مِنْهُ، فَلَا يَأْمَنُ أَنْ يُسْلَبَ عَقْلَهُ إِنْ أُعْجِبَ بِهِ وَلَمْ يَقُمْ بِشُكْرِهِ، وَيَسْتَقْصِرَ عِلْمَهُ وَعَقْلَهُ. وَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مَا أُوتِيَ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا وَإِنِ اتَّسَعَ عِلْمُهُ، وَأَنَّ مَا جَهِلَهُ مِمَّا عَرَفَهُ النَّاسُ أَكْثَرُ مِمَّا عَرَفَ فَكَيْفَ بِمَا لَمْ يَعْرِفْهُ النَّاسُ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى؟ وَأَنْ يَتَّهِمَ عَقْلَهُ وَيَنْظُرَ إِلَى الْحَمْقَى كَيْفَ يُعْجَبُونَ بِعُقُولِهِمْ وَيَضْحَكُ النَّاسُ مِنْهُمْ، فَيَحْذَرُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ، وَهُوَ لَا يَدْرِي، فَإِنَّ الْقَاصِرَ الْعَقْلِ لَا يَعْلَمُ قُصُورَ عَقْلِهِ. فَيَنْبَغِي أَنْ يَعْرِفَ مِقْدَارَ عَقْلِهِ مِنْ غَيْرِهِ لَا مِنْ نَفْسِهِ، وَمِنْ أَعْدَائِهِ لَا مِنْ أَصْدِقَائِهِ، فَإِنَّ مَنْ يُدَاهِنُهُ يُثْنِي عَلَيْهِ فَيَزِيدُهُ عُجْبًا، وَهُوَ لَا يَظُنُّ بِنَفْسِهِ إِلَّا الْخَيْرَ، وَلَا يَفْطَنُ لِجَهْلِ نَفْسِهِ فَيَزْدَادُ بِهِ عُجْبًا. الرَّابِعُ: الْعُجْبُ بِالنَّسَبِ الشَّرِيفِ حَتَّى يَظُنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يَنْجُو بِشَرَفِ نَسَبِهِ وَنَجَاةِ آبَائِهِ وَأَنَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ. وَعِلَاجُهُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مَهْمَا خَالَفَ آبَاءَهُ فِي أَفْعَالِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ وَظَنَّ أَنَّهُ مُلْحَقٌ بِهِمْ فَقَدْ جَهِلَ، وَإِنِ اقْتَدَى بِآبَائِهِ فَمَا كَانَ مِنْ أَخْلَاقِهِمُ الْعُجْبُ، بَلِ الْخَوْفُ وَمَذَمَّةُ النَّفْسِ، وَلَقَدْ شَرُفُوا بِالطَّاعَةِ وَالْعِلْمِ وَالْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ لَا بِالنَّسَبِ، فَلْيَشْرُفْ بِمَا شَرُفُوا بِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الْحُجُرَاتِ: 13] أَيْ لَا تَفَاوُتَ فِي أَنْسَابِكُمْ لِاجْتِمَاعِكُمْ فِي أَصْلٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ ذَكَرَ فَائِدَةَ النَّسَبِ فَقَالَ: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الْحُجُرَاتِ: 13] ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الشَّرَفَ بِالتَّقْوَى لَا بِالنَّسَبِ فَقَالَ: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الْحُجُرَاتِ: 13]. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ اللَّهَ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ» أَيْ كِبْرَهَا: «كُلُّكُمْ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ». وَلَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشُّعَرَاءِ: 214] نَادَاهُمْ بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ حَتَّى قَالَ: «يَا فاطمة بنت محمد، يَا صفية بنت عبد المطلب عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اعْمَلَا لِأَنْفُسِكُمَا فَإِنِّي لَا أُغْنِي عَنْكُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا» فَبَيَّنَ أَنَّهُمْ إِذَا مَالُوا إِلَى الدُّنْيَا لَمْ يَنْفَعْهُمْ نَسَبُ قُرَيْشٍ. فَمَنْ عَرَفَ هَذِهِ الْأُمُورَ، وَعَلِمَ أَنَّ شَرَفَهُ بِقَدْرِ تَقْوَاهُ، وَقَدْ كَانَ مِنْ عَادَةِ آبَائِهِ التَّوَاضُعُ اقْتَدَى بِهِمْ فِي التَّقْوَى وَالتَّوَاضُعِ، وَإِلَّا كَانَ طَاعِنًا فِي نَسَبِ نَفْسِهِ بِلِسَانِ حَالِهِ مَهْمَا انْتَمَى إِلَيْهِمْ وَلَمْ يُشْبِهْهُمْ فِي التَّوَاضُعِ وَالتَّقْوَى وَالْخَوْفِ وَالْإِشْفَاقِ. الْخَامِسُ: الْعُجْبُ بِنَسَبِ الْأُمَرَاءِ وَأَعْوَانِهِمْ دُونَ نَسَبِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَهَذَا غَايَةُ الْجَهْلِ. وَعِلَاجُهُ أَنْ يَتَفَكَّرَ فِي مُنْكَرَاتِهِمْ وَمَا جَرُّوا عَلَى النَّاسِ مِنَ الْمَحْظُورَاتِ فَيَشْكُرُ اللَّهَ أَنْ عَصَمَهُ مِنْ تَبِعَاتِهِمْ. السَّادِسُ: الْعُجْبُ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ مِنَ الْأَوْلَادِ وَالْخَدَمِ وَالْعَشِيرَةِ وَالْأَقَارِبِ كَمَا قَالَ الْكُفَّارُ: {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا} [سَبَأٍ: 35] وَكَمَا قَالَ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ حُنَيْنٍ: لَا نُغْلَبُ الْيَوْمَ مِنْ قِلَّةٍ. وَعِلَاجُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْكِبْرِ، وَهُوَ أَنْ يَتَفَكَّرَ فِي ضَعْفِهِ وَضَعْفِهِمْ، وَأَنَّ كُلَّهُمْ عَجَزَةٌ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا، وَلَا نَفْعًا، ثُمَّ كَيْفَ يُعْجَبُ وَهُمْ سَيُفَارِقُونَهُ إِذَا مَاتَ وَدُفِنَ وَحْدَهُ ذَلِيلًا مُهَانًا، وَيُسَلِّمُونَهُ إِلَى الْبِلَى وَالْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ، وَلَا يُغْنُونَ عَنْهُ شَيْئًا. وَيَهْرُبُونَ مِنْهُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عَبَسَ: 34- 36] فَكَيْفَ تُعْجَبُ بِمَنْ يُفَارِقُكَ فِي أَشَدِّ أَحْوَالِكَ وَيَهْرُبُ مِنْكَ، وَكَيْفَ تَتَّكِلُ عَلَى مَنْ لَا يَنْفَعُكَ وَتَنْسَى نِعَمَ مَنْ يَمْلِكُ نَفْعَكَ وَضَرَّكَ؟. السَّابِعُ: الْعُجْبُ بِالْمَالِ كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ ذَاكَ الْكَافِرِ إِذْ قَالَ: {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} [الْكَهْفِ: 34] وَعِلَاجُهُ أَنْ يَتَفَكَّرَ فِي آفَاتِ الْمَالِ وَكَثْرَةِ حُقُوقِهِ، وَإِلَى أَنَّ فِي الْيَهُودِ مَنْ يَزِيدُ عَلَيْهِ فِي الْمَالِ، وَيَنْظُرُ إِلَى فَضِيلَةِ الْفُقَرَاءِ وَخِفَّةِ حِسَابِهِمْ. وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ مِنَ الْمُؤْمِنِ أَنْ يُعْجَبَ بِمَالِهِ، وَلَا يَخْلُو مِنْ تَقْصِيرٍ فِي الْقِيَامِ بِحُقُوقِ الْمَالِ مِنْ أَخْذِهِ مِنْ حِلِّهِ وَوَضْعِهِ فِي حَقِّهِ، وَأَنَّ مَآلَ الْمُتَهَوِّرِ فِي الْجَمْعِ وَالْمَنْعِ إِلَى الْخِزْيِ وَالْبَوَارِ. الثَّامِنُ: الْعُجْبُ بِالرَّأْيِ الْخَطَأِ، قَالَ تَعَالَى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فَاطِرٍ: 8] وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الْكَهْفِ: 104] وَقَدْ أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَنَّ بِذَلِكَ هَلَكَتِ الْأُمَمُ السَّالِفَةُ إِذِ افْتَرَقَتْ فِرَقًا وَكُلٌّ مُعْجَبٌ بِرَأْيِهِ، وَ{كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 53 وَالرُّومِ: 32]. وَعِلَاجُهُ أَنْ يَتَّهِمَ رَأْيَهُ أَبَدًا فَلَا يَغْتَرُّ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشْهَدَ لَهُ قَاطِعٌ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ صَحِيحٍ جَامِعٍ لِشَرْطِ الْأَدِلَّةِ، وَلَنْ يَعْرِفَ الْإِنْسَانُ أَدِلَّةَ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَشُرُوطَهَا وَمَكَامِنَ الْغَلَطِ فِيهَا إِلَّا بِقَرِيحَةٍ تَامَّةٍ، وَعَقْلٍ ثَاقِبٍ، وَجِدٍّ وَتَشَمُّرٍ فِي الطَّلَبِ، وَمُمَارَسَةٍ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمُجَالَسَةٍ لِأَهْلِ الْعِلْمِ طُولَ الْعُمُرِ، وَمُدَارَسَةٍ لِلْعُلُومِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْغَلَطُ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، وَالصَّوَابُ لِمَنْ لَمْ يَتَفَرَّغْ لِاسْتِغْرَاقِ عُمُرِهِ فِي الْعِلْمِ أَنْ لَا يَخُوضَ فِي الْمَذَاهِبِ، بَلْ يَشْتَغِلُ بِالتَّقْوَى وَاجْتِنَابِ الْمَعَاصِي، وَأَدَاءِ الطَّاعَاتِ وَالشَّفَقَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. نَسْأَلُهُ تَعَالَى الْعِصْمَةَ مِنَ الضَّلَالِ وَنَعُوذُ بِهِ مِنَ الِاغْتِرَارِ بِخَيَالَاتِ الْجُهَّالِ.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْأَحْمَقُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ». فَالْغُرُورُ هُوَ سُكُونُ النَّفْسِ إِلَى مَا يُوَافِقُ الْهَوَى وَيَمِيلُ إِلَيْهِ الطَّبْعُ عَنْ شُبْهَةٍ وَخُدْعَةٍ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ عَلَى خَيْرٍ إِمَّا فِي الْعَاجِلِ أَوْ فِي الْآجِلِ عَنْ شُبْهَةٍ فَاسِدَةٍ فَهُوَ مَغْرُورٌ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ يَظُنُّونَ بِأَنْفُسِهِمُ الْخَيْرَ وَهُمْ مُخْطِئُونَ فِيهِ، فَأَكْثَرُ النَّاسِ إِذَنْ مَغْرُورُونَ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَصْنَافُ غُرُورِهِمْ. وَأَشَدُّ الْغُرُورِ: غُرُورُ الْكُفَّارِ وَغُرُورُ الْعُصَاةِ وَالْفُسَّاقِ؛ فَأَمَّا غُرُورُ الْكُفَّارِ فَقَدْ أُشِيرَ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} [الْبَقَرَةِ: 86]. وَعِلَاجُ هَذَا الْغُرُورِ: إِمَّا التَّصْدِيقُ بِالْإِيمَانِ، وَإِمَّا بِالْبُرْهَانِ. أَمَّا التَّصْدِيقُ بِمُجَرَّدِ الْإِيمَانِ فَهُوَ أَنْ يُصَدِّقَ اللَّهَ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النَّحْلِ: 96]. وَفِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ} [آلِ عِمْرَانَ: 198]. وَقَوْلِهِ {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الْأَعْلَى: 17] وَقَوْلِهِ: {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [لُقْمَانَ: 33، وَفَاطِرٍ: 5]. وَقَدْ أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ طَوَائِفَ مِنَ الْكُفَّارِ فَصَدَّقُوهُ وَآمَنُوا بِهِ وَلَمْ يُطَالِبُوهُ. بِالْبُرْهَانِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: نَشَدْتُكَ اللَّهَ أَبَعَثَكَ اللَّهُ رَسُولًا؟ فَكَانَ يَقُولُ: نَعَمْ، فَيُصَدِّقُ، هَذَا إِيمَانُ الْعَامَّةِ، وَهُوَ يُخْرِجُ مِنَ الْغُرُورِ. وَأَمَّا الْمَعْرِفَةُ بِالْبَيَانِ وَالْبُرْهَانِ فَأَنْ تَعْرِفَ فَسَادَ مَا وَسْوَسَ بِهِ الشَّيْطَانُ مِنَ الْغُرُورِ بِالتَّبَصُّرِ فِي دَعْوَى الْأَنْبِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَتَصْدِيقِهِمْ، فَإِنَّهُ أَيْضًا يُزِيلُ الْغُرُورَ، وَهُوَ مُدْرِكٌ يَقِينَ الْعَوَامِّ وَأَكْثَرَ الْخَوَاصِّ، وَمِثَالُهُمْ مَرِيضٌ لَا يَعْرِفُ دَوَاءَ عِلَّتِهِ وَقَدِ اتَّفَقَ الْأَطِبَّاءُ وَأَهْلُ الصِّنَاعَةِ مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ عَلَى أَنَّ دَوَاءَهُ النَّبْتُ الْفُلَانِيُّ، فَإِنَّهُ تَطْمَئِنُّ نَفْسُ الْمَرِيضِ إِلَى تَصْدِيقِهِمْ، وَلَا يُطَالِبُهُمْ بِتَصْحِيحِ ذَلِكَ بِالْبَرَاهِينِ الطِّبِّيَّةِ، بَلْ يَثِقُ بِقَوْلِهِمْ وَيَعْمَلُ بِهِ، وَلَوْ بَقِيَ مَعْتُوهٌ يُكَذِّبُهُمْ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ يَعْلَمُ بِالتَّوَاتُرِ وَقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ أَنَّهُمْ أَكْثَرُ مِنْهُ عَدَدًا وَأَغْزَرُ مِنْهُ فَضْلًا وَأَعْلَمُ مِنْهُ بِالطِّبِّ، بَلْ لَا عِلْمَ لَهُ بِالطِّبِّ فَيَعْلَمُ كَذِبَهُ بِقَوْلِهِمْ، وَلَا يَعْتَقِدُ كَذِبَهُمْ بِقَوْلِهِ، وَلَا يَغْتَرُّ فِي عِلْمِهِ بِسَبَبِهِ، وَلَوِ اعْتَمَدَ قَوْلَهُ وَتَرَكَ قَوْلَ الْأَطِبَّاءِ كَانَ مَعْتُوهًا مَغْرُورًا، فَكَذَلِكَ مَنْ نَظَرَ إِلَى الْمُقِرِّينَ بِالْآخِرَةِ، وَالْمُخْبِرِينَ عَنْهَا وَالْقَائِلِينَ بِأَنَّ التَّقْوَى هِيَ الدَّوَاءُ النَّافِعُ فِي الْوُصُولِ إِلَى سَعَادَتِهَا وَجَدَهُمْ خَيْرَ خَلْقِ اللَّهِ وَأَعْلَاهُمْ رُتْبَةً فِي الْبَصِيرَةِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالْعَقْلِ، وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالْحُكَمَاءُ وَالْعُلَمَاءُ، وَاتَّبَعَهُمْ عِلْيَةُ الْخَلْقِ عَلَى أَصْنَافِهِمْ، وَشَذَّ مِنْهُمْ آحَادٌ مِمَّنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِمُ الشَّهْوَةُ وَمَالَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَى التَّمَتُّعِ فَعَظُمَ عَلَيْهِمْ تَرْكُ الشَّهَوَاتِ، وَعَظُمَ عَلَيْهِمُ الِاعْتِرَافُ بِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَجَحَدُوا الْآخِرَةَ، وَكَذَّبُوا الْأَنْبِيَاءَ، فَكَمَا أَنَّ قَوْلَ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ لَا يُزِيلُ طُمَأْنِينَةَ الْقَلْبِ إِلَى مَا اتَّفَقَ الْأَطِبَّاءُ. فَكَذَلِكَ قَوْلُ هَذَا الْغَبِيِّ الَّذِي اسْتَرَقَتْهُ الشَّهَوَاتُ لَا يُشَكِّكُ فِي صِحَّةِ أَقْوَالِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ. وَهَذَا الْقَدْرُ مِنَ الْإِيمَانِ كَافٍ لِجُمْلَةِ الْخَلْقِ، وَهُوَ يَقِينٌ جَازِمٌ يَسْتَحِثُّ عَلَى الْعَمَلِ لَا مَحَالَةَ، وَالْغُرُورُ يَزُولُ بِهِ. وَأَمَّا غُرُورُ الْعُصَاةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَبِقَوْلِهِمْ: إِنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ وَإِنَّا نَرْجُو عَفْوَهُ، وَاتِّكَالِهِمْ عَلَى ذَلِكَ وَإِهْمَالِهِمُ الْأَعْمَالَ، وَتَحْسِينِ ذَلِكَ بِتَسْمِيَةِ تَمَنِّيهِمْ وَاغْتِرَارِهِمْ رَجَاءً، وَظَنِّهِمْ أَنَّ الرَّجَاءَ مَقَامٌ مَحْمُودٌ فِي الدِّينِ، وَأَنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ وَاسِعَةٌ وَرَحْمَتَهُ شَامِلَةٌ وَكَرَمَهُ عَمِيمٌ، وَأَيْنَ مَعَاصِي الْعِبَادِ فِي بِحَارِ كَرَمِهِ، وَإِنَّا مُوَحِّدُونَ فَنَرْجُوهُ بِوَسِيلَةِ الْإِيمَانِ. وَرُبَّمَا كَانَ مُسْتَدْرَجَاتُهُمُ التَّمَسُّكَ بِصَلَاحِ الْآبَاءِ وَعُلُوِّ رُتْبَتِهِمْ كَاغْتِرَارِ الْعَلَوِيَّةِ بِنَسَبِهِمْ، وَمُخَالَفَةِ سِيرَةِ آبَائِهِمْ فِي الْخَوْفِ وَالتَّقْوَى وَالْوَرَعِ، وَظَنِّهِمْ أَنَّهُمْ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ آبَائِهِمْ إِذْ آبَاؤُهُمْ مَعَ غَايَةِ الْوَرَعِ وَالتَّقْوَى كَانُوا خَائِفِينَ، وَهُمْ مَعَ غَايَةِ الْفِسْقِ وَالْفُجُورِ آمِنُونَ وَذَلِكَ نِهَايَةُ الِاغْتِرَارِ بِاللَّهِ تَعَالَى. أَيَنْسَى الْمَغْرُورُ أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَرَادَ أَنْ يَسْتَصْحِبَ وَلَدَهُ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ فَلَمْ يُرِدْ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ {فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هُودٍ: 45] فَقَالَ تَعَالَى: {يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هُودٍ: 46]، وَأَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ اسْتَغْفَرَ لِأَبِيهِ فَلَمْ يَنْفَعْهُ. وَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يَنْجُو بِتَقْوَى أَبِيهِ كَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يَشْبَعُ بِأَكْلِ أَبِيهِ، وَيَرْوَى بِشُرْبِ أَبِيهِ، وَيَصِيرُ عَالِمًا بِعِلْمِ أَبِيهِ، وَيَصِلُ إِلَى الْكَعْبَةِ وَيَرَاهَا بِمَشْيِ أَبِيهِ. فَالتَّقْوَى فَرْضُ عَيْنٍ فَلَا يَجْزِي فِيهِ وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ شَيْئًا، وَكَذَا الْعَكْسُ.
|